
أُعلن في فرنسا، صباح الأحد 28 ديسمبر 2025، عن وفاة بريجيت باردو عن عمر ناهز الحادية والتسعين عامًا، بعد مسيرة إنسانية وفنية استثنائية، انتهت في العزلة التي اختارتها منذ عقود، بعيدًا عن الأضواء التي صنعت اسمها ورافقتها طويلًا. برحيلها، تُسدل الستارة على واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا وإثارة للجدل في تاريخ السينما الأوروبية، امرأة لم تكن نجمة فقط، بل ظاهرة ثقافية كاملة غيّرت صورة المرأة، والسينما، والنجومية نفسها.
وُلدت بريجيت باردو في باريس عام 1934 داخل عائلة محافظة، ونشأت في بيئة صارمة لا ترى في الفن مسارًا للحياة. منذ طفولتها اتجهت إلى الباليه، وتعلّمت من خلاله الانضباط والتحكم بالجسد، قبل أن تقودها الصدفة إلى عالم الأزياء، حيث ظهرت على أغلفة المجلات وهي في سن المراهقة، لتبدأ رحلة غير متوقعة نحو السينما. في أوائل الخمسينيات دخلت التمثيل بأدوار صغيرة، ولم يكن حضورها آنذاك يوحي بالانفجار الذي سيغيّر مسار حياتها وحياة السينما الفرنسية.

التحوّل الحاسم جاء عام 1956 مع فيلم And God Created Woman، الذي لم يكن مجرد نجاح فني، بل صدمة ثقافية عالمية. جسّدت باردو فيه امرأة حرة، صادقة مع رغباتها، لا تخضع للأطر الأخلاقية التقليدية، فانهارت الصورة النمطية للأنوثة على الشاشة، وتحولت باردو إلى رمز عالمي للجمال والحرية والتمرد الهادئ. منذ تلك اللحظة لم تعد مجرد ممثلة، بل أيقونة تعكس تحولات المجتمع الأوروبي بعد الحرب.
في السنوات التالية، اختارت أدوارًا أكثر عمقًا وتعقيدًا، مبتعدة عن التكرار، فبرزت في La Vérité بشخصية إنسانية قاسية ومتناقضة، ثم شاركت في Contempt تحت إدارة جان لوك غودار، لتصبح جزءًا من تيار السينما الفرنسية الجديدة، حيث لم تعد الجماليات وحدها في الواجهة، بل الأسئلة الوجودية والقلق الإنساني. في تلك المرحلة، تحوّلت باردو من نجمة شباك إلى حضور فني يحمل بعدًا فكريًا.
خارج الشاشة، أصبحت أسلوب حياة. من تسريحتها إلى ملابسها، ومن حضورها العفوي إلى تمردها الصامت، ارتبط اسمها بمدينة سان تروبيه التي تحولت بفضلها إلى رمز عالمي للحرية والانفلات من القوالب. لكن الشهرة التي صنعت الأسطورة كانت في الوقت نفسه عبئًا ثقيلًا، فقد طاردتها الكاميرات، وسُلبت خصوصيتها، وتحولت حياتها إلى عرض دائم لا ينتهي.
في عام 1973، وفي ذروة نجاح كان كفيلًا باستمرارها عقودًا طويلة، اتخذت قرارًا حاسمًا باعتزال السينما نهائيًا. لم يكن القرار تراجعًا، بل انسحابًا واعيًا من عالم لم تعد تشعر بالانتماء إليه. أغلقت باب الفن، وفتحت بابًا آخر أكثر صعوبة، حين كرّست حياتها للدفاع عن الحيوانات، وأسست مؤسسة بريجيت باردو، لتتحول من أيقونة سينمائية إلى صوت إنساني صلب في قضايا الرفق بالحيوان، وهو الدور الذي واصلت من خلاله إثارة الجدل والاحترام في آنٍ واحد.
برحيل بريجيت باردو، لا يودّع العالم ممثلة شهيرة فحسب، بل يودّع امرأة عاشت على الحافة بين المجد والعزلة، بين الجمال والموقف، امرأة صنعت أسطورتها بنفسها، ثم غادرت المسرح في الوقت الذي اختارته، وبقي اسمها حاضرًا بوصفه جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة السينما وتاريخ الثقافة الحديثة.
زر الذهاب إلى الأعلى