رغم أن أحد معاصريه وصفه بأنه “الرسام الأبرز في روما” (egregius in urbe pictor)، إلا أن كارافاجيو سقط من دائرة الاهتمام بعد وفاته بعدة عقود. ففي عام 1660، وصفه بوسان بقسوة قائلًا إنه “جاء إلى العالم ليُدمّر الرسم.” لكن لم تبدأ مسيرته نحو الاستعادة الحقيقية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حين شرع مؤرخ الفن الإيطالي روبرتو لونغي في مشروع طويل لإعادة الاعتبار إليه. ومنذ ذلك الحين، لم يعد العالم يُزيح عينيه عن كارافاجيو.
معرض “كارافاجيو 2025” المقام في قصر باربيريني في روما، يجمع نحو 24 لوحة من أعماله المعروفة (والتي يُقدّر عددها بحوالي 60 لوحة)، قادمة من مجموعات فنية إيطالية وعالمية. هذه الأعمال تغطي الفترة من وصوله إلى روما في 1595 (أحدث مما كان يُعتقد سابقًا) وحتى وفاته عام 1610، عن عمر ناهز 38 عامًا فقط. ومع استمرار اكتشاف اللوحات المنسية، فإن تراثه ينمو. واحدة من هذه اللوحات المعروضة، Ecce Homo، تم اكتشافها عام 2021 في مزاد بإسبانيا، وأخرى – وهي نسخة أقل شهرة من صورة مافيو باربيريني – لا تزال موضع نسبة غير مؤكدة. ومع احتساب اللوحات الأخرى المنتشرة في كنائس ومتاحف المدينة، وسقف كازينو بونكومباني لودوفيزي الذي بات متاحًا للزوار، يمكن الآن رؤية قرابة ثلثي إنتاج كارافاجيو الفني في رحلة واحدة إلى روما حتى 6 يوليو.
السيرة الفاضحة جزء لا يتجزأ من جاذبيته المستمرة. الاسم الحقيقي للفنان كان ميكيلانجلو ميريسي، وقد أخذ اسم كارافاجيو من قرية لومباردية حيث كان يعمل والده. عُرف في روما بقدر ما عُرف بأعماله، بتصرفاته العنيفة والمشينة: كان يحمل سيفًا دون ترخيص، وسُجن ذات مرة لأنه رمى طبق خرشوف (وربما شتيمة) في وجه نادل. وفي نهاية المطاف، هرب من المدينة بعد أن قتل أحد صغار المجرمين إثر شجار نشب بسبب مباراة تنس! حُكم عليه بالإعدام، ففرّ إلى نابولي، ثم إلى مالطا حيث انضم إلى فرسان مالطا، لكنه سُجن هناك وهرب متدليًا من جرف إلى قارب بانتظاره. تنقل بعدها إلى صقلية، ثم عاد إلى نابولي، حيث تعرّض لهجوم مفاجئ شوه وجهه “بما لا يُعرف معه.” توفي لاحقًا بالملاريا، وحيدًا، وهو في طريق عودته إلى روما.
وأعماله – وإن لم تكن سيرة ذاتية مباشرة – تعكس هذا الاضطراب. كثير من لوحاته تتضمن صورًا ذاتية مخفية، مثل ديفيد ورأس جوليات، التي رسمها عام 1606 أثناء محاولته نيل العفو، حيث استخدم وجهه كرأس جوليات المقطوع – كأنه يعرض نفسه للمشاهد، بصورة دموية تنبئ بما سيحدث له لاحقًا.
لكن ما يجعل أعمال كارافاجيو تتجدّد مع الزمن، هو أسلوبه الفريد. أعماله تستدعي حضورًا إنسانيًا حادًا، ومع ذلك تخلق عالمًا انعكاسيًا خالصًا، عالم الصورة فقط. المعرض يبدأ بلوحة نارسيس (1597–1598) التي تُجسّد هذا الانبهار بالانعكاس والمظهر. تقنيته المذهلة تطرح أسئلة أكثر مما تجيب، خاصة في سياق روما المانوية، حيث كان “الجمال المتخيّل” هو النموذج الأعلى، بينما أصرّ كارافاجيو على رسم الحياة كما هي.
الطبيعية شيء حين ترسم مشاهد دنيوية – كما في لوحة “لاعبي الورق” (1596–1597)، حيث نرى شُبّانًا أنيقين يتلاعبون بالحيل، أو في ثلاث بورتريهات مدهشة معروضة، منها صورة مافيو باربيريني الثانية (التي أصبح لاحقًا البابا أوربان الثامن)، التي يُعرض بريق أخضره المترف لأول مرة منذ رسمت عام 1598–1599.
لكن تصوير الجسد البشري يصبح أمرًا آخر حين يكون المقدس هو الموضوع. في لوحاته اللاحقة، يبدو أن العنف الذي خيّم على حياته قد ألقى بظلاله على أعماله: الأجساد تُضاء كأنها لقطات من فيلم نوار، يغلب عليها الظل أكثر من الضوء، كأن معركة أخلاقية تدور تحت السطح المصقول.
وفي أكثر مشاهده جرأة، يُجسّد القداسة بجسد فاتن. ثلاث لوحات لـ القديس يوحنا المعمدان (آخرها من عام 1610 تكاد تُشبه فينوس)، وأخرى تستعين بجمال المومس فيلّيده ميلاندورني، التي ظهرت في لوحات عديدة بالمعرض. فهي القديسة كاثرين الوقورة (1598–99)، ومريم المجدلية أمام المرآة المحدّبة في مريم ومارثا، وجوديث التي تقتل هولوفرنيس في واحدة من أكثر لوحاته شهرة، حيث يُقتل الجنرال البابلي بسبب خديعة شكلية.
الواقعية في لوحات كارافاجيو تُجبرك على التورط العاطفي. في قمة المعرض، لوحة أسر المسيح (1603) من المعرض الوطني الإيرلندي، تلتقط لحظة الخيانة تمامًا: المسيح ما زال متشابك الأصابع في صلاة، بينما يطبع يهوذا قبلة الخيانة، والجنود ينقضّون عليه. في أقصى يسار اللوحة، أحد التلاميذ يصرخ في الظلمة، بينما يظهر كارافاجيو نفسه حاملاً فانوسًا، يبحث عن النور وسط الفوضى.
ويختتم المعرض بلوحته الأخيرة: “استشهاد القديسة أورسولا” (1610) كارافاجيو يقف وراء أورسولا مباشرة، بعد أن اخترقها سهم الملك الهوني الذي رفضت عرضه بالزواج. فمه مفتوح، ملامحه مشوشة كأنها لحظة حيرة لا دهشة، وكأنه لم ير السهم بعد. ينظر نحو الملك في ظلمة المشهد… لكن من أين يأتي الضوء؟