في مرحلةٍ كانت الأغنية السعودية تبحث فيها عن هويتها وسط موجات التغيير، وُلد تياران متوازيان: أحدهما يسعى للانتشار، والآخر يُمسك بجذور الطرب والأصالة. في هذا السياق، ظهر عمر كدرس،ليس كملحن فقط بل كصوت راسخ ودافيء يحمل ملامح نادرة في الساحة لايتشابه مع اي صوت آخر .
لم يكن الطريق أمام فنانا الكبير ممهدًا ولم يكن من أولئك الذين يملكون شبكة علاقات داخل الإذاعة أو يحرصون على التواجد الدائم في المجالس الفنية. كان صبورًا، محتفظًا بألحانه لنفسه، لا يُسرّبها إلا عندما يشعر أن الوقت مناسب، وأن المستمع يستحق. لم يعرض ألحانه في الأسواق، بل كان يُهديها بهدوء، كما يُهدي شاعر قصيدته لصديق يعرف قيمتها.
كانت الانعطافة الحقيقية مع طلال مداح، الفنان الذي لا يقبل أي لحن ، ولا يجامل في ما يغني سمع طلال لحناً بصوت كدرس، فطلب لقاءه، ومنذ تلك اللحظة نشأت بينهما علاقة فنية قائمة على الإحساس العميق لا على كثرة الكلمات لحّن له “يا سارية خبريني”، و”إغنم زمانك”، و”يا موقد النار”، و”عنب في غصونه”، وغيرها من الأعمال التي لم تكن مجرد أغنيات، بل صفحات من كتاب وجدان الخليج واصبحت فيما بعد علامه فارقه في تاريخ الغناء السعودي .
كدرس مع الراحل طلال مداح.
أما محمد عبده، فقد تعامل مع كدرس من موقع تقدير متبادل، فغنّى من ألحانه “ليلة خميس”، و”جيب لي شاهد”، و”تدلل”، و”وهم”، و”أعلل قلبي”، وجميعها ألحان تُظهر دقة البناء اللحني الذي يُقدّمه كدرس، وبراعته في تطويع المقام لخدمة الشعور لا الاستعراض.
مع عبدالمجيد عبدالله، كانت التجربة أقل من حيث العدد، لكنها ثابتة في الأثر، حيث لحّن له أغنية واحدة شهيرة هي “محبتي”، وقد مثّلت لحظة التقاء بين الجيل الجديد وواحد من أكثر الملحنين اتزانًا.
لحّن أيضًا لعدد من الفنانين الذين لم يكونوا في واجهة الضوء، لكن أصواتهم كانت جديرة بالاحترام، منهم محمد عمر في أغنيات مثل “موجة البحر” و”ما في يدي”، وعبادي الجوهر في “طعم الهوى”، وعلي عبدالكريم في “يقولون”. هذه الأعمال تكشف عن قدرة كدرس على التكيّف دون أن يتنازل عن أسلوبه.
أما صوته، فلم يكن غنائيًا استعراضيًا على الطريقة التقليدية، بل كان صوتًا عميقًا، هادئًا، يحمل من التأمل أكثر مما يحمل من الزخرفة. كان يمتلك طبقة صوتية متوسطة أقرب إلى القرار، فيها شيء من الحنان وكثير من الصدق، لا يعتمد على الاتساع، بل على النبرة، ولا يراهن على العلو، بل على التماسك.
كدرس مع مجموعة من زملائه الفنانين والملحنين والشعراء السعوديين.
خاض تجربة الغناء في وقت متأخر من مسيرته، حين قرر أن يُفرغ شيئًا من مخزونه اللحني بصوته، لا من باب الطرب، بل من باب الشهادة. لم يكن يغني ليسبق، بل ليؤكد أن ما يكتبه لا يحتاج إلى صوت خارجي ليكتمل. أصدر ألبومًا بعنوان “تدلل”، تضمن أغانٍ بصوته من ألحانه، جاءت كمزيج من الحنين والهدوء، وسُجّلت بأسلوب جلسات الطرب لا بأسلوب الاستوديوهات التجارية.
وعلى مستوى الأداء، كان يغني وفق جُمل قصيرة، محسوبة، تتخللها لحظات صمت تُعد جزءًا من اللحن ذاته. وكان يُجيد تطويع مقام الحجاز تحديدًا، بما فيه من شجن متأصل، وكذلك مقام الكرد الذي كان يعبّر من خلاله عن الانكسار بهدوء. صوته لا يُشبه أصوات المطربين، بل يُشبه صوت الملحن حين يغني لنفسه فقط، دون انتظار تقييم.
مقامات كدرس كانت أقرب إلى الحجاز والنهاوند والكرد، وكان يعرف كيف يُنزّل اللحن درجةً بدرجة، ويعود به في لحظة خاطفة إلى القرار، وكأنّه يروي حكاية لها بداية ونهاية، دون أن يشرحها بالكلام.
ورحل عمر كدرس دون ضجيج، كما عاش تمامًا. لم يترك وصايا، ولا مذكرات، لكنه ترك ما هو أهم: موسيقى لا تشبه أحدًا. وما زالت ألحانه، حتى اليوم، تُقال في الجلسات بصوت صاخب وعلى المسارح كما لو أن كل من سمعه يحتفظ له بجملة خاصة لا يشارك بها أحدًا.