اخبار فنيةسوشيال ميديامشاهير العرب
أخر الأخبار

رحلة الم فايزة احمد من الألف إلى الياء

في تاريخ الغناء العربي، أصوات كثيرة مرّت… بعضها لمع، وبعضها انطفأ، وقليل منها ظلّ مشتعلاً في ذاكرة القلب. فايزة أحمد لم تكن مجرد مطربة؛ كانت حالة وجدانية تمشي على لحن، امرأة يُسمع بكاؤها في ضحكتها، وارتجاف قلبها في اهتزاز صوتها. لم تكن تؤدي الأغنية، بل تعيشها، وكأن بين كل كلمة وأخرى نبضة من روحها.

عندما كانت تغني، لم تكن تُطرب فحسب، بل تُربك المستمع. لأن صوتها لا يمر، بل يستقر، في زاوية خفية من الإحساس. في زمن كانت فيه المقارنة بين الأصوات تحتد، لم تكن فايزة تسعى لتكون الأقوى، بل كانت تسعى لتكون الأصدق، ونجحت في ذلك كما لم تفعل غيرها.

وحدها فايزة أحمد كانت تستطيع أن تقول “أنا قلبي إليك ميّال” فيتحوّل الغناء إلى اعتراف، وتقول “ست الحبايب” فيصبح الوطن أمًا، والأم وطنًا. لم تكن فايزة من الجيل العابر، بل من جيل الرنين الباقي، الذي حتى بعد الصمت… يُسمع.

ولدت فايزة أحمد بيكو في الخامس من ديسمبر عام 1934 في مدينة صيدا اللبنانية لأب سوري وأم لبنانية، لكنها نشأت في دمشق، وهناك بدأت ملامح صوتها تتشكل. كانت طفلة تحمل شجن النساء، ومراهقة تحفظ الموال عن ظهر وجع، وشابة لا تؤمن إلا بأن الفن هو نجاتها الوحيدة من كل ما يؤلم.

في بداية الخمسينات، قررت فايزة الانتقال إلى بيروت، وهناك قدمت نفسها كمطربة مستقلة، قبل أن تنتقل إلى القاهرة، والتي كانت آنذاك عاصمة الفن العربي. تقدمت لاختبارات الإذاعة المصرية واعتمدها الملحن الكبير محمود الشريف، ومن ثم بدأت علاقتها بكبار الملحنين مثل محمد الموجي، رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب.

مع ابنائها التوأم

أول أغنية جعلت الجمهور يلتفت إليها كانت: “بقي عايز تنساني ليه؟” من ألحان عبد الوهاب، والتي فتحت أمامها أبواب المجد الفني.

في الستينات، التقت فايزة أحمد بالموسيقار الشاب محمد سلطان. بدأت العلاقة كتعاون فني، وسرعان ما تحولت إلى قصة حب ثم زواج. أنجبت منه توأمًا، وكانا يشكلان ثنائيًا فنيًا متناغمًا. غنّت له أجمل أغانيها، منها: “مال عليّ مال”، و”من هنا ورايح”، و”غلطة واحدة”. ورغم ما شاب زواجهما من خلافات، إلا أن فايزة اعترفت في أكثر من لقاء بأنه كان حب حياتها، وقالت: “لو عاد بي الزمان، لتزوجت محمد سلطان من جديد.”

امتلكت فايزة قدرة نادرة على التنقل بين الألوان الغنائية، غنّت العاطفي الكلاسيكي مثل “أنا قلبي إليك ميال”، و”بيت العز”، وقدّمت الأغنية الشعبية بأسلوبها الخاص مثل “ياما القمر ع الباب”، وتألقت في الغناء الوطني في “ست الحبايب”، التي أصبحت رمزًا دائمًا لأغنية الأم. كما غنّت بلهجات عربية متنوعة، واحتفظت ببصمتها رغم هذا التنوع.

وراء الأضواء، كانت هناك فايزة أخرى. امرأة شديدة الحساسية، تكتب مشاعرها على الورق، وتعاني من غيرة فنية صامتة. كتبت كثيرًا عن وردة الجزائرية، لا بُغضًا، بل قلقًا. لم تُعلن غيرتها، بل تركتها في دفترها، وأجابت على كل منافسة بصوتها لا بكلامها.

رفضت ذات مرة أغنية كتبها عبد الرحمن الأبنودي، لأنها لم تشعر بها، رغم أنها كانت في حاجة لتجديد نفسها. كانت فايزة تؤمن أن الغناء ليس وظيفة، بل طقس داخلي لا يمكن أن يُزوّر.

في صمت، ساعدت بعض الفنانين الكبار الذين خفت حضورهم، بإرسال مبالغ مالية دون أن يعرف أحد. كانت تقول: “كرامة الفنان لا تُمس، حتى لو خفت صوته.”

في عام 1982، دخلت فايزة معركة شرسة مع مرض السرطان. رفضت أن تُعلن ذلك. كانت تتلقى العلاج صباحًا، وتُكمل تسجيل أغانيها مساءً. في تسجيل أغنيتها الأخيرة “الليلة”، ظهرت مرتدية شعرًا مستعارًا ونظارات داكنة، لكنها كانت قوية بما يكفي لتخفي وجعها خلف الميكروفون. قالت لمهندس الصوت: “أنا أريد أن أودّع الناس وأنا أغني، مش وأنا أنسحب.”

عانت فايزة أحمد في صمت من الألم الجسدي والنفسي، فقد كان العلاج الكيميائي ينهك جسدها، لكنها كانت تصر على الحضور يوميًا إلى الاستوديو وكأنها ترفض الاعتراف بالهزيمة. لم تكن تشكو، بل كانت تُخفي أنينها بين فواصل الأغاني، وتعود إلى منزلها متعبة، لكنها مرتاحة لأنها غنّت من قلبها رغم كل شيء.

كانت تستند إلى جدار الاستوديو أحيانًا حين تشعر بدوار، وتعود بعدها لتغني وكأن شيئًا لم يكن. قالت لأحد أصدقائها المقربين في أحد الأيام: “ما عاد عندي طاقة أشتكي، خلّي صوتي يكون هو اللي يقول إني ما زلت حية.”

تميّزت فايزة أحمد عن غيرها من مطربات عصرها بقدرتها الفريدة على التعبير العاطفي النابع من عمق التجربة الشخصية، فكانت عندما تغني عن الفقد أو الحنين، تشعر وكأنها تحكي سيرة ذاتية لا مجرد لحن يُؤدى. امتلكت نبرة شجن خاصة بها، جعلت أغنياتها تدخل القلب بلا استئذان.

رغم النجاح الذي حققته، لم تنجُ فايزة من صراعات الوسط الفني، خاصة بعد بروز أسماء جديدة مثل وردة الجزائرية ونجاة الصغيرة. إلا أن فايزة لم تدخل في صدام مباشر، بل اختارت أن ترد بصوتها، وقدمت ألوانًا مغايرة تثبت بها تفرّدها.

 

واحدة من المواقف اللافتة في مسيرتها، كانت عندما رفضت أداء عمل كتبه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، لأنه – على حد قولها – لا يناسب “مزاجها الغنائي”، رغم أنها كانت تمر بفترة ركود، مما يدل على تمسكها بهويتها الفنية.

لم تكن فايزة فنانة فقط، بل إنسانة شديدة الحساسية، وكانت تعاني من مشاعر متقلبة، وهو ما أثر أحيانًا على استقرارها الشخصي، لكنها كانت دائمًا ما تجد عزاءها في الفن.

من المواقف الإنسانية النادرة، أنها كانت تداوم على إرسال مساعدات مالية لعدد من الفنانين الكبار الذين تراجع حضورهم أو دخلهم، دون أن تعلن ذلك. كانت ترى أن “كرامة الفنان لا تُمس، حتى لو خفت صوته.”

تُعدّ فايزة أحمد اليوم من العلامات الباقية في تاريخ الغناء العربي، ومرجعًا لكل من أراد أن يعرف كيف يكون الأداء الصادق، والتعبير بالغناء لا بالصوت فقط، بل بالروح.

https://top4top.me/UURIKS0hL6kud3P/preview

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى