ذاكرة نجمك – الصور بالذكاء الإصطناعي
ليست كل الأصوات تُسمع، فبعضها يُحسّ، وبعضها يُسكنك دون استئذان. وشادية… لم تكن صوتًا يمرّ، بل كانت حالة. حالة من الصفاء، من الحنين، من الدفء الذي يشبه حضن الأم، ونظرة الحبيبة، وهمسة الوطن. حين تغنّي، لا تشعر أنها تغني لك وحدك، بل كأنها تعرفك منذ زمن، وتعرف ماذا خذلك، فتغني لتُرممك. وحين تمثّل، لا تتقمّص الشخصية، بل تُذيب نفسها فيها حتى لا تعرف من منهما أنتَ تراه.
شادية لم تكن نجمة تقف تحت الأضواء، بل كانت الضوء نفسه. امرأة ناعمة كسحابة، لكنها إذا أرادت، زلزلت وجدان أمة بأغنية. في زمن الرجال، كانت أنثى بحجم وطن.
ولدت فاطمة أحمد كمال شاكر في 8 فبراير 1931، لكن تلك الطفلة لم تكن تعرف أن اسمها سيُنسى، ويُولد معها اسمٌ جديد سيحيا طويلاً: شادية. لم تكن تملك خلفية أكاديمية في الموسيقى، لكنها امتلكت ما لا يُدرّس، ذلك الشعور الطاغي الذي لا يقاوم.
دخلت عالم الفن من بوابة الصوت، ثم استقرت في قلب الشاشة، ومضت ترسم ملامح امرأة لا تشبه غيرها، مزيج من الرقة والصلابة، من الطفولة والحكمة، من النور والظل.
قدّمت أكثر من مئة وعشرة أفلام، وكانت كل مرة تولد من جديد. تألقت في اللص والكلاب بدور نور، تلك الفتاة التي وقفت بين الجريمة والحب، أمام شكري سرحان، ثم هزّت الوجدان في شيء من الخوف حين أدت دور فؤادة، تلك المرأة التي قالت “لا” في وجه القهر، وظل صوتها يطارد الطغيان. وفي المرأة المجهولة، انسكبت في شخصية الأم الموجوعة التي قهرتها الظروف.
لم تكن شادية مجرد ممثلة تؤدي النص، بل كانت هي النص، وكانت السينما تصمت لتسمعها. مع صلاح ذو الفقار، صنعت ثنائية لا تُنسى في مراتي مدير عام، وأغلى من حياتي، وجعلت من الحب على الشاشة تجربة قابلة للتصديق. مع نضجها، اختارت أن تجسّد الوجع الشعبي، كما في نحن لا نزرع الشوك، حيث لامست وجدان الناس بصوتها ونظراتها.
أما صوتها، فكان وطنًا وحده. حين غنت يا حبيبتي يا مصر، كانت مصر تنظر في المرآة وتبكي. لم تكن شادية تطرب فقط، بل كانت تبني وعيًا، تزرع إحساسًا، تحرّك شيئًا عميقًا في الناس. في أغانيها الوطنية، لم تكن ترفع شعارات، بل كانت تنفخ الروح في الكلمات. وفي أغاني الحب، كانت الصوت الذي يضمّد لا الجسد، بل القلب.
لم يكن الحب غريبًا عنها، لكنها لم تعيشه كما على الورق. تزوجت ثلاث مرات، وكانت كل تجربة درسًا من نوع خاص. زواجها الأول من عماد حمدي كان خليطًا من الانبهار والانكسار، الرجل الذي أحبته واكتشفت أن ظلّه كبير على قلبها الصغير، رجل لم يحتمل أن تنجح أكثر منه. ثم جاء زواجها من المهندس عزيز فتحي، محاولة للهدوء والاحتماء، لكنها لم تطق الابتعاد عن الفن.
أما علاقتها بصلاح ذو الفقار، فكانت الحلم الجميل الذي لم يكتمل، شاركها المجد والنجاح، ولم يشاركها السكون. فشلت علاقاتهم، لكنها لم تفشل في الحب. ظلت وفية لما عاشت، ولم تحوّل تجربتها إلى مرارة. بل اكتفت بالوحدة حين صارت أصدق.
ومثلما دخلت الفن بصمت، خرجت منه بصوت داخلي لم نسمعه، لكنها سمعته. اعتزلت وهي في قمة الضوء، لم تودع الناس، لم تعلن، لم تبكِ. فقط قررت أن تبتعد، وابتعدت. لم تسعَ للعودة، لم تظهر في لقاءات، لم تتحدث عن الماضي. كانت تعرف أن وهجها يكفي، وأن العطاء لا يُقاس بالمدة، بل بالأثر.
وفي 28 نوفمبر 2017، انطفأ الجسد، لكن النور لم يخفت. شادية لم تمت، لأن من عاش بهذا القدر من الصدق لا يموت. صوتها لا يزال يمرّ في الطرقات، يخرج من المقاهي القديمة، يُبث من إذاعات الوطن، يُستعاد في لحظات الحنين. لم تكن شادية فصلًا في كتاب، بل كانت الكتاب كله. امرأة تسكن الذكرى بصوتها، وتلهمنا أننا نستطيع أن نكون ناعمين وصادقين وقادرين في الوقت نفسه.
الصورة بالذكاء الإصطناعي