طوال مشواره الفني لم يكن محمد عبده فنانًا يؤدي أغانٍ فحسب ، بل كان ذاكرة صوتية للمجتمع السعودي على مر عصور.
هذا المقال ليس عن إنجازاته أو شهرته أو أعماله الفنية ، بل هو قراءة فكرية وتحليلية للصوت ذاته ، كوثيقة غير مكتوبة تحمل مشاعر أمة كاملة على مدى عقود.
محمد عبده غنّى للزمان أكثر مما غنّى للمكان في صوته حنين الطفولة وشجن الأمس وجمال المستقبل ، وارتباك البدايات، وهدوء النضج ، وتأملات الشيخوخة بإختصار هو مجموعة من الحالات المختلفه مزاجيا وفكريا وثقافيا .
يمكن تقسيم صوت فنان العرب إلى مراحل نفسية ، تعكس حال المجتمع في كل عقد من العقود ، في السبعينات كان صوته يحمل نَفَسَ الشاب الذي يبحث عن إثبات ذاته وسط عالم متغير وشديد السرعه وحضور كبار وعمالقة الفنانين في العالم العربي ، وفي الثمانينات بدا صوته وطنيًا حالِمًا ، مفعمًا بالشجن والتأمل أما في التسعينات، فقد أضحى أكثر نضجًا وتوهجاً ، يعكس فهمًا عميقًا للعاطفة ، وفي الألفية ظهر صوته حكيمًا ، يؤدي وكأنه يتأمل ، لا يصرخ ، بل يُلمّح ويعبر عن ملامح أغنيته بطريقة لايستطيعها إلا محمد عبده.
جاهل هو من يقلل من إمكانيات هذا الرمز ، وجاهل من يتهاون بعطائه وماقدم لصالح الأغنية السعودية ولوطنه واتمنى ان يحاسب من يسيء لفنان العرب لأنه يسيء لذائقة مجتمع كامل وليس فرد واحد .
محمد عبده لم يكن قارئ نوتة فقط، بل قارئًا للمزاج العام. اختياراته اللحنية، المقامات التي يؤدي بها، حتى صمته بين المقاطع، كل ذلك مدروس بعناية. هو فنان يعرف متى يتحدث صوته، ومتى يصمت لتتحدث الذاكرة. في كثير من أغانيه، هناك لحظات صمت مقصودة، ليست توقف عن الغناء، بل لحظة تأمل تتيح للمستمع أن يعيد تشكيل مشاعره. هذه التقنية التي يقدمها محمد عبده لم تُحلل كثيرًا، لكنها عنصر أساسي في تشكيل طقسية الاستماع لأعماله.
يقول الدكتور عدنان المهنا : حين غنّى فنان العرب “فوق هام السحب” لم تكن مجرد أغنية وطنية ، بل كانت لحظة إعلان صوتي لهوية أمة.
والجميل في فنان العرب ان صوته لا يُستخدم فقط للتعبير، بل للتوثيق، كأن الشعب سجل تاريخه بصوته. صوته كان مرآة للتحولات الاجتماعية في المملكة. في فترات الطفرة الاقتصادية، جاء صوته واثقًا، شامخًا، يعكس الازدهار. وفي فترات التحولات السياسية أو التغيرات الاجتماعية، أصبح أكثر حذرًا، تأمليًا، وكأنه يُعيد قراءة الواقع قبل أن يغنيه. هذا الانسجام العميق بين فنه والمناخ الاجتماعي، جعله جزءًا من الوعي المجتمعي .
بعكس كثير من الفنانين في جميع انحاء العالم لا يُستمع لمحمد عبده عرضًا أو على الهامش. هناك طقوس غير مكتوبة تحيط بصوته: يفضّل الناس الاستماع له في المساء، في لحظات الصفاء أو الوحدة، كأن صوته لا يُسمع بل يُتأمل. هذا السلوك الجمعي نحو الاستماع له يستحق دراسة اجتماعية مستقلة. وفي كثير من الأحيان، كان صوت محمد عبده أداة للمستمع كي يتصالح مع ألمه، حزنه، حنينه، وحتى ضعفه. هناك أصوات تذكّر بالمآسي، لكن صوته يقدّمها كجزء من نضوج الإنسان، من عمق الشعور. لذلك، فإن الاستماع له يصبح حالة علاجية، لا مجرد طرب.
محمد عبده ليس فقط فنانًا، بل هو أرشيف صوتي لمجتمع كامل. إذا أردت أن تفهم الوجدان السعودي، فلا تبدأ من السياسة ولا من الأدب، بل من صوت محمد عبده. فهو لا يغني فقط، بل يُخلد، يُسجل، ويُهدّئ مجتمعًا بأكمله، كلما اضطربت مشاعره.
حين يغني محمد عبده، لا يبدو كمن يؤدي لحنًا… بل كمن يروي حكاية من أعماق ذاكرته، حكاية عاشها أو تلبّسته، حتى ولو لم تكن كلماته.
صوته ليس أداءً متقنًا فقط، بل شعور متكامل… كأن كل نغمة فيه تمر من قلبه قبل أن تصل إلى حنجرته.
في كل غنية يؤديها، تشعر أن هناك علاقة خاصة بينه وبين النص، كأنّه يقرأ سطورها بعينيه قبل أن يطلقها بصوته. لا يغني لمجرد الإعجاب بالكلمات، بل لأنه يؤمن بها، وكأنها قُصّت عليه وحده، أو كُتبت من داخله.
محمد عبده لا “ينفعل” مع الأغنية، بل “يندمج” معها، يدخلها من الداخل، ويتقمّص مشاعرها حتى في لحظات الصمت بين الجمل. حتى تلك الوقفات التي يظنها البعض فنية، هي في حقيقتها لحظات شعور، استراحة للروح لا للصوت.
أغنياته العاطفية ليست مجرد رسائل حب، بل رسائل وعي داخلي. وحين يغني للوطن، لا يستخدم الحماس كأداة صوتية، بل يستخدم الهيبة والانتماء والسكينة، كأن صوته يحمل الراية لا القصيدة.
ولذلك، فإن إحساس محمد عبده بأغانيه ليس فقط فيما نسمع، بل فيما نحس ونحن نسمع.
هو لا يُقنعك بالأغنية… بل يجعلك تعيشها معه.
رئيس التحرير – حسن النجمي